- آلاف التونسيون يفرون من بلادهم هربا من البطالة والفقر وانسداد الأفق السياسي
- شبكتا الكزاوي والتطواني لتهريب البشر “الأبرز”.. ودور مهم لمنصات التواصل الاجتماعي
- آلية تعاون مشتركة بين أوروبا ومحيطها.. الحل الأمثل للمواجهة
ترصد دراسة حديثة قصة جديدة للاستغلال السياسي لورقة المهاجرين بطلاها هذه المرة تونس وصربيا، مشيرة إلى أن دولا سلطوية أخرى ستواصل استخدام ورقة المهاجرين، لتحقيق تفوّق نسبي على أوروبا، طالما لم ينجح الاتحاد الأوروبي في بلورة آلية تعاون مشتركة بينه وبين جيرانه، تعالج الأسباب الحقيقية للهجرة.
ويقول الباحث بمركز مالكوم كير – كارنيغي في دراسته المهمة، والتي جاءت تحت عنوان” استخدام المهاجرين كورقة ضغط.. صربيا وهجرة التونسيين غير الشرعية الى أوروبا: “إن الهجرة غير الشرعية، باتت سلاحًا غير تقليدي يُستخدَم من أجل الحصول على النفوذ السياسي، وجني الموارد، والتأثير على دول أقوى وأكثر ثراءً”.
وتشير الدراسة إلى أن البلدان الواقعة إلى جنوب الاتحاد الأوروبي وشرقه، وخصوصا أنظمة “الاستقرار السلطوي”، تُدرك تداعيات الهجرة الجماعية غير الشرعية التي تتسبّب بـ “حدوث تشنّجات وانقسامات حادّة داخل الاتحاد، وسَعت في مناسبات عدة إلى الضرب على هذا الوتر من أجل دفع الاتحاد الأوروبي إلى تقديم تنازلات محدّدة”.
وتمتلك هذه الأنظمة القدرة على استخدام الاستقرار المزعوم بمثابة ورقة مساومة للحصول على الشرعية الخارجية وتحقيق الأهداف الاستراتيجية، على الرغم من شوائبه على صعيدَي الديمقراطية وحقوق الإنسان.
واستخدمت دول في جوار الاتحاد الأوروبي، مثل تركيا وصربيا والمغرب ومقدونيا، الاستقرار للحصول على المعونات الاقتصادية والدعم السياسي من الغرب مقابل المساعدة على تسوية المشاكل الإقليمية، مثل ضبط موجات اللجوء والهجرة.
أما الاستراتيجية الصربية، بحسب الدراسة، فكانت مدفوعةً أكثر برغبة في اقتناص اللحظة الجيوسياسية لتذكير العواصم الأوروبية التي تساورها شكوك بشأن توسيع الاتحاد، ولا سيما باريس ولاهاي، بأنها مخطئة في اعتقادها أن بإمكانها إبقاء مصير دول البلقان معلَّقًا إلى ما لا نهاية في عملية توسيع الاتحاد الأوروبي.
وتؤكد الدراسة أن صربيا، ومن خلال سماحها للمهاجرين التونسيين بعبور أراضيها، تمكنت من تحقيق تفوّق نسبي على الاتحاد الأوروبي في سياق “تبدّد آمالها بالانضمام إليه، وخلافاتها الحدودية مع كوسوفو، والضغوط التي تتعرّض لها من أجل حملها على الالتحاق بالعقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا”.
وتضيف رغم أن صربيا أغلقت الطريق أمام التونسيين في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، ولكنها وجّهت رسالة إلى الاتحاد الأوروبي مفادها أن “انضمامها إلى الاتحاد هو السبيل الوحيد لمعالجة قضية المهاجرين بطريقة حاسمة”.
تونس على الخط
ومن جهتها رحّبت الدولة التونسية أيضًا بطريق صربيا. فكلّما زاد عدد المهاجرين، ازدادت التحويلات المالية.
ووفقا للدراسة، منح هذا الطريق الحكومة فرصة للتنصل من مسؤولياتها، لأن التونسيين لم يحتاجوا آنذاك إلى تأشيرة للدخول إلى صربيا وتركيا.
وتربط الدراسة بين تطورات الأوضاع السياسية في تونس وبين استخدام ورقة الهجرة لأغراض سياسية.
وتشير إلى أن وضع الهجرة غير النظامية تفاقم “بُعيد الانقلاب الذي نفذه قيس سعيد في تموز/يوليو 2021، حيث اتضح للفرقاء السياسيين التونسيين البارزين، أن الهجرة ستؤدي دورًا أساسيًا في تحديد موقف المجتمع الدولي من نظام الرئيس”.
والى جانب التطورات السياسية، فقد ساهم تدهور الأوضاع الاقتصادية في تونس بعد تفشّي وباء كوفيد-19، في تشجيع آلاف الشباب على الهجرة.
وفضّل المهاجرون من ولاية تطاوين المهمّشة طريق صربيا، وحصلوا على مساعدات مالية من تونسيين يعيشون في أوروبا ويتحدّرون من هذه الولاية الجنوبية.
الكزاوي والتطواني
وتلفت الدراسة الانتباه الى أن المهاجرين غير النظاميين استفادوا من إمكانية سفر التونسيين إلى تركيا وصربيا من دون تأشيرة، واعتمدوا على شبكات التهريب في شمال أفريقيا لمساعدتهم على عبور الحدود الصربية المجرية ومتابعة طريقهم إلى النمسا ودول أخرى في أوروبا الغربية.
ونتيجةً لذلك، سجّلت أعداد المهاجرين التونسيين غير الشرعيين الذين رُصدوا على طريق غرب البلقان ارتفاعًا ملحوظًا من 190 مهاجرًا في العام 2020، إلى 842 في العام 2021، لتبلغ 6,782 مهاجرًا في العام 2022. وقد سلك هذا الطريق بشكل خاص آلاف الشباب المتحدّرين من ولاية تطاوين التونسية المهمشّة والواقعة على مقربة من الحدود الليبية.
وكان أحد عوامل الجذب في أوروبا انتشار شبكات التهريب، التي كان الكثير منها من شمال أفريقيا، وتولّت تنظيم عبور المهاجرين من صربيا إلى المجر ودول أخرى.
وبحسب الدراسة، نظّمت شبكات التهريب نفسها وفقًا للانتماءات الإثنية، وتراوحت بين شبكات شمال أفريقية، أو مغاربية، وسورية، وأفغانية، وتركية. وبدءًا من منتصف العام 2020، ركّزت شبكات تهريب المهاجرين من شمال أفريقيا عملياتها على الحدود الصربية المجرية.
وعادةً ما سُمّيت هذه الشبكات تيمّنًا بألقاب قادتها، واشتُقَّت في الغالب من مسقط رأسهم، مثل “الكزاوي”، نسبةً لمهرّب من كازابلانكا أو الدار البيضاء في المغرب، أو “التطواني” نسبةً لمهرب مغربي آخر من تطوان.
منصات التواصل لجذب المهاجرين
وأدّى التنافس بين مختلف شبكات التهريب إلى تنظيم تدفّق المهاجرين باستخدام منصات التواصل الاجتماعي، ووضع إجراءات للتحويلات المالية، وآليات النقل والسكن. فجمعت منصات التواصل الاجتماعي بين المهاجرين والمهرّبين، وساعدت في تنظيم هذه التدفّقات.
وكشف استخدام هذه الشبكات لوسائل التواصل الاجتماعي، على غرار فيسبوك وواتساب وسيغنال، لجذب المهاجرين المحتملين، عن مدى فاعليتها، إذ حدّثت صفحاتها على فايسبوك بشكل يومي (ثم محت المضمون في وقت لاحق)، وأضافت صورًا ومقاطع فيديو للمعابر الحدودية، ووضعت قوائم بأسماء المهاجرين الذين نجحوا في الوصول بأمان إلى وجهاتهم النهائية في أوروبا الغربية، قدّمت هذه الصفحات إذًا صورة مفصّلة عن سوق هجرة تتنافس فيه شبكات التهريب لتقديم أفضل الخدمات وكسب رضى المهاجرين أو العملاء المستقبليين.
اوروبا تواجه
واتهم الاتحاد الأوروبي، بلغراد بعدم التعاون وعدم الاستعداد لمواءمة إجراءاتها في مجال تأشيرات الدخول مع إجراءات الاتحاد الأوروبي.
في هذا الصدد، اعتبر مسؤولون في الاتحاد الأوروبي أن المشكلة هي في الأنظمة المُعتمدة في صربيا لإعفاء دول في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط من تأشيرة الدخول، ومنها بوروندي ومصر والهند والمغرب وتونس.
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2022، هدّد مفوّض الاتحاد الأوروبي للشؤون الداخلية بالتوقف عن إعفاء صربيا من الحصول على تأشيرة لدخول منطقة شنغن إذا لم تضع حدًّا للهجرة غير الشرعية عبر أراضيها.
وهو ما أدى التوصل الى قيام بلغراد بفروض شروطها على مواطني تونس وبوروندي للحصول على تأشيرة دخول، ما أشار ظاهريًا إلى انتهاء الهجرة الجماعية من تونس عبر الطريق الصربي.
صحيحٌ أن صربيا رضخت في نهاية المطاف لضغوط الاتحاد الأوروبي، إلا أنها استطاعت من خلال ممارساتها أن توجّه رسالة له بأن انضمامها إلى الاتحاد هو السبيل الوحيد لمعالجة قضية المهاجرين بطريقة حاسمة.
وعلى الصعيد التونسي أثارت موجة الهجرة من تونس قلق الاتحاد الأوروبي. فبين العامَين 2018 و2021، شكّل التونسيون أكثر من ثلث عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى إيطاليا عبر البحر.
وفي ظل تزايد موجات الهجرة، زادت أوروبا ضغوطها على تونس مطالبةً إياها بضبط حدودها وتنفيذ تدابير سريعة لترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى وطنهم.
وفي 17 آب/أغسطس 2020، توصلّت إيطاليا وتونس إلى اتفاق حول الهجرة، بعد زيارة أجراها وزيرا الخارجية والداخلية الإيطاليان إلى تونس،
ولكن تفاصيل هذا الاتفاق لم تخرج إلى العلن. وبحسب وثيقة نشرها صحافيون استقصائيون إيطاليون، شمل الاتفاق حول الهجرة منح تونس تمويلًا بقيمة ملايين اليورو مقابل التزامها بإعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى وطنهم، (كما وقع الاتحاد الأوروبي في وقت لاحق للدراسة مع وتونس مذكرة تفاهم من أجل «شراكة استراتيجية شاملة». ويُقدّم الاتحاد الأوروبي بمقتضى هذه الاتفاقية مساعدة مالية لتونس، التي ستعزز في المقابل كفاحها ضد الهجرة غير النظامية عبر البحر الأبيض المتوسط. لاتفاق مع تونس).
الأزمة مستمرة
واجه التونسيون تحدّيًا كبيرًا بعد أن قرّرت السلطات الصربية فرض تأشيرات عليهم ليتمكّنوا من دخول أراضيها.
إضافةً إلى الأزمات التي تعاني منها تونس على مستوى المواد الغذائية وموارد الطاقة نتيجة الحرب في أوكرانيا، ألحق نقص الأمطار أضرارًا فادحة بالقطاع الزراعي في البلاد، ما أسفر عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتهديد سبل عيش سكان الأرياف.
ولا شك أن ذلك سيؤدّي إلى استمرار مساعي التونسيين الرامية إلى الهجرة نحو أوروبا.
في غضون ذلك، تتوقّع الدول الأوروبية أن تواصل حركة الهجرة غير الشرعية ارتفاعها المطّرد خلال العام 2023.
وتشير الدراسة إلى أن لطالما عوّضت الهجرة في تونس عن فشل المسؤولين في تلبية تطلّعات الشباب والاستجابة لمطالبهم. وينطبق هذا الواقع بشكل خاص على الشباب المتحدّرين من بيئات اجتماعية واقتصادية محرومة
وتجدر الإشارة إلى أن نجاح الاتحاد الأوروبي راهنًا في إغلاق طريق صربيا في وجه المهاجرين التونسيين لا يعني بالضرورة أن هذه الممارسات لن تستمر على قدم وساق في أماكن أخرى. فالدوافع التي تحدو بالكثير من الدول الواقعة عند أطراف أوروبا إلى السماح للمهاجرين بمواصلة التدفّق عبر أراضيها ستبقى قائمة في المستقبل.
علاوةً على ذلك، إذا مُنِع المهاجرون من تونس وبوروندي من الدخول إلى صربيا، لا يزال بإمكان المهاجرين من دول أخرى سلوك هذا الطريق أو إيجاد طرق جديدة.
هذا هو مثلًا حال الكوبيين الذين بدأوا باستغلال قدرتهم على السفر من دون تأشيرة إلى روسيا وصربيا لعبور طريق الهجرة البلقاني إلى الاتحاد الأوروبي.
وتخلص الدراسة إلى أنه يتعيّن على الاتحاد الأوروبي “توفير آفاق استراتيجية للدول الواقعة في جواره، تستند إلى الازدهار المشترك بهدف خفض وتيرة الهجرة غير الشرعية، وإلا سيبقى عرضةً للضغوط”، لأنه يعالج الأعراض وليس الجذور.