بقلم: علي طه
لا أحد يريد أن يخرج من بلده التي ولد وترعرع ونشأ فيها، إلا أن يجد فيها ظلما وانعداما للكرامة الإنسانية، فيسعى للبحث عن مكان يحترم إنسانيته وكرامته وحلمه بأن يكون إنسانا،
وتشير تقارير الى أن معدلات الهجرة الى أوروبا في تزايد مستمر، رغم دعمها للأنظمة المستبدة في أفريقيا والمنطقة العربية، لتلعب دور حارس البوابة، الذي يحول وصول اللاجئين الى أبوابها.
ويبدو الأمر كأحجية ليس لها حل، فلسان حال العديد من الحكومات الأوروبية يقول سنواجه فشلنا في منع الهجرة باتباع ذات السياسات التي تعمق هذا الفشل. وهو ما يعني اهدار المزيد من الوقت في المضي في الاتجاه الخاطئ.
وليت الأمر يقف عند خطيئة “إهدار الوقت” بل أن عشرات الألوف من المهاجرين الذين يريدون النجاة من أرض الخوف والفقر سعيا وراء “فرصة بديلة”، يدفعون ثمن، هذه السياسات “الكارثية”.
وتستخدم الأنظمة الأوروبية المتطرفة أو التي تريد سحب البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف، كل أسلحتها لوقف الهجرة باعتبارها “غزو وشيك”، وتهديد “لحضارة الجنس الأبيض”، وتعتبرها سبب أزماتها الاقتصادية والاجتماعية العميقة.
ووصل الأمر الى أن تخرج وزيرة خارجية بريطانيا خلال شهر سبتمبر معلنة رغبتها في تجاوز اتفاقية اللاجئين التي باتت “غير مواكبة لظروف العصر الراهن”.
وحددت اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين التي تريد بريطانيا الانقلاب عليها ولن تكون الأخيرة التعريف القانوني لمصطلح “لاجئ” كما حددت حقوق اللاجئين.
كما تقوم الانظمة الأوروبية بتقليص نفقاتها على المهاجرين بشتى السبل، مما يعرض حياتهم للخطر، ووصل الأمر، حسب منظمات اغاثية، الى محطة التغاضي عن واجب انقاذ اللاجئين من الغرق في مياه البحر المتوسط.
وقال بيان صادر عن منظمة “هيلينيك ليغ لحقوق الإنسان”، يوم 14 سبتمبر إن 40 ناجياً، من الكارثة الأكثر دموية لغرق قارب في البحر الأبيض في السنوات القليلة الماضية، رفعوا دعوى قضائية يشكون من أن “السلطات اليونانية فشلت في التدخل الفوري وتنظيم عملية مناسبة في الوقت المناسب لإنقاذ من كانوا على متن القارب”.
وغرق القارب قبالة اليونان في يونيو، بينما كان يقل ما بين 400 إلى 750 شخصا من باكستان وسوريا ومصر. ولم ينج من المهاجرين سوى حوالي 104 رجال.
وكانت شبكة CNN قد أعدت تحقيقاً بوقت سابق نقلت فيه شهادات ناجين من كارثة القارب وأقاربهم تشكك في رواية خفر السواحل اليوناني للأحداث، ما يشير إلى أنه كان من الممكن إنقاذ المزيد من الأرواح.
دعم المستبدين. فتش عن المصالح
وبالرغم من كل هذه الإجراءات، أعلنت الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل “فرونتكس” ، في شهر مايو الماضي (Frontex) إن الاتحاد الأوروبي قد يشهد رقما قياسيا آخر من الأشخاص الساعين للوصول إلى حدوده العام الجاري عبر سبل غير قانونية مع مزيد من المهاجرين المدفوعين بأسباب مثل الفقر وتغير المناخ وليس الصراع.
وقالت فرونتكس إنه منذ بداية العام 2023 ارتفع عدد الأشخاص الذين يحاولون الوصول إلى الشواطئ الأوروبية من شمالي أفريقيا عبر إيطاليا إلى أكثر من 42 ألفا، وهي زيادة بنسبة 292% بين يناير/كانون الثاني وأبريل/نيسان الماضيين مقارنة بالأشهر الأربعة نفسها من عام 2022.
من جانبه، قال هانس ليتنس الذي تولى رئاسة فرونتكس في مارس الماضي، إن عدد الأشخاص المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء في ارتفاع، مما يشير إلى تحول في أسباب الهجرة لتصبح مدفوعة بالفرار من الفقر وتغير المناخ بدلا من الحرب، مضيفا أن “هذا العام قد يسجل رقما قياسيا آخر”..
وترى منظمات يسارية وحقوقية أن أحد أهم أسباب تدفق اللاجئين هو دعم أوروبا للحكام المستبدين والمتورطين بالفساد في أفريقيا والمنطقة العربية، مما يحول دون وجود تنمية حقيقية في هذه المجتمعات تكون دافعا لملايين الشباب للبقاء في بلادهم دون خوف أو معتقلات.
وبحسب مراقبين، فقد شرعت أوروبا في توطيد علاقاتها بالرئيس التونسي قيس سعيد الذي انقلب على التجربة الديمقراطية في 25 يوليو 2021، والتي كانت مصدر أمل والهام للملايين في المنطقة العربية، بعد فترة من المعارضة الخجولة والانتقادات الودودة.
ووقع الرئيس التونسي، الذي تحول الى ديكتاتور، يجمع كل سلطات في يديه في شهر تموز/ يوليو الماضي مذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي تهدف بصورة جزئية إلى الحد من الهجرة غير المنظمة، وسط انتقادات حقوقية بسبب تعامل السلطات التونسية، “غير الإنساني”، مع مهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، مؤخرا.
وشمل اتفاق “الشراكة الاستراتيجية” مجالات أخرى من بينها التنمية الاقتصادية والطاقة المتجددة. وعقب الإعلان عن الاتفاق، الذي وقع في تونس، تعهدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بتعزيز ورفع مستوى التعاون في إدارة الحدود وعمليات البحث والإنقاذ
كما قالت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، إن الاتفاق خطوة مهمة نحو شراكة حقيقية لمعالجة ما تصفه بـ”أزمة الهجرة”.
ولكن الاتفاقية التي أبرمها الاتحاد الأوروبي مع تونس أثارت كذلك انتقادات بسبب طريقة تعامل السلطات التونسية في الآونة الأخيرة مع المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء.
وهؤلاء المهاجرون، وبينهم نساء وأطفال، تركوا لمصيرهم وسط الصحراء في العراء من دون ماء أو طعام، وفقا لشهادات جمعتها وكالة الأنباء الفرنسية عبر الهاتف ومقاطع فيديو تلقتها منظمات غير حكومية في تونس.
وتلحظ مذكرة التفاهم تخصيص 15 مليون يورو – من أصل الـ 105 ملايين يورو- للعودة “الطوعية” لنحو 6000 مهاجر من دول أفريقيا جنوب الصحراء من تونس إلى بلدانهم الأصلية.
ويقول كارل كوب، رئيس قسم أوروبا في منظمة “برو أزول” الألمانية المدافعة عن حقوق اللاجئين: “نرى أن شريكًا للاتحاد الأوروبي يتصرف بناء على خطاب كراهية ضد اللاجئين من جنوب الصحراء الكبرى. ونرى أن مئات الأشخاص قد تم التخلي عنهم في الصحراء باتجاه ليبيا”، ويضيف: “لا يمكن توقع أي شيء جيد من صفقة في ظل هذه الظروف. من الواضح أنها تتعلق بأن يقوم مستبد باعتراض قوارب المهاجرين المتجهة إلى أوروبا”.
ويرى رمضان بن عمر، الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن الاتفاق “رؤية أوروبية أحادية الجانب”. ويضيف لوسائل إعلام، أنه تم التوقيع على مذكرة التفاهم بين الطرفين في ظل ظروف “غير ديمقراطية”، مشيرًا إلى تدابير الرئيس قيس سعيد، الذي فرض قيودًا متزايدة على الحقوق والمؤسسات الديمقراطية.
ويؤكد بن عمر أن ما يهم الأوروبيين في المقام الأول هو الحد من الهجرة غير النظامية، ويعتقد أن وجود برنامج دعم مكثف للاقتصاد التونسي في الاتفاق المقترح ليس سوى من أجل “أغراض تجميلية”. من جهتها وصفت الصحفية التونسية منية بن حمادي الاتفاق بأنه “بين الاتحاد الأوروبي وشخص واحد”، منتقدة افتقار “صفقة الهجرة”، من وجهة نظرها، لـ”الخصائص الشرعية من الناحية السياسية”.
ورغم هذه الانتقادات يسعى الاتحاد الأوروبي، إلى إرساء شراكة مماثلة مع أنظمة تمتلك سجلا أسود في مجال حقوق الانسان مثل مصر والمغرب بشأن المهاجرين.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إنها تريد أن تكون هذه الشراكة نموذجا لاتفاقيات مستقبلية مع دول المنطقة.
ووفقا لجريدة الاندبندنت فإن الاتحاد الأوروبي قد يسعى إلى شراكة جديدة واسعة النطاق مع مصر، تتضمن تدابير لوقف الهجرة غير النظامية، وتقويض شبكات تهريب البشر اللاإنسانية.
ومن جانبه حذر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في شهر سبتمبر 2023 مجددا من آثار الزيادة السكانية في مصر، والتي وصفها بالكارثية.
واقترح السيسي أن تكون هناك هجرة مشروعة للعمالة من الدول ذات الكثافات السكانية المرتفعة، إلى دول أخرى مثل أوروبا، أو الدول ذات الكثافات السكانية المنخفضة.
ورغم ان السيسي جاء أيضا للحكم عبر انقلاب عسكري عام 2013، فلم يواجه من واشنطن والعواصم الأوروبية سوى بمعارضة خجولة سرعان ما تبددت مع توالي صفقات السلاح مع أوروبا وخصوصا مع المانيا وفرنسا.
وعلى سبيل المثال جاءت مصر ضمن قائمة أهم الدول الحاصلة على تصاريح لتوريدات أسلحة من الحكومة الألمانية خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2021.
ويظهر رد وزارة الاقتصاد الألمانية على طلب إحاطة من قبل النائبة البرلمانية عن حزب اليسار المعارض، سيفيم داغديلين، في نوفمبر 2021، أن مصر جاءت في المرتبة الأولى في قائمة الدول الأكثر طلباً للأسلحة والمعدات العسكرية الألمانية في الربع الأول من عام 2021 بمشتريات بلغت قيمتها 290,6 مليون يورو، بينما كانت في المرتبة الثالثة عام 2021 بمشتريات بلغت قيمتها 802 مليون يورو.
ويرى مراقبون ان الحكومات الغربية دعمت الحكام الطغاة بالدول العربية لأنها كانت تعتقد أن أفضل من يخدم مصالحها في المنطقة هم الحُكام المستبدون، بوعدهم الوهمي بـ “الاستقرار”، وفضلت هذا الاختيار على مسار الحكومات المنتخبة المليئة بالاحتمالات.
إلى جانب تصور الغرب أن هؤلاء الحكام قادرون على مكافحة الإرهاب، أما مسألة تعذيب هؤلاء الطغاة وقمعهم لشعوبهم فباتت مسألة ثانوية، متناسين أن هذا القمع يزيد عادة من دعم الأفراد للجماعات المتطرفة والعنيفة.
كما كان الغرب، يرى طغاة العرب أفضل سبيل لاستمرار تدفق النفط. وفي الوقت نفسه، أعطت أرباح النفط الهائلة لهؤلاء الطغاة سبلاً قمعية تمكنهم من الاحتفاظ بالسلطة دون مساءلتهم أمام جمهور من دافعي الضرائب.
فتش عن التاريخ
غير أن خبراء يحملون أوروبا كذلك المسئولية التاريخية عن تردي الأوضاع الاقتصادية في الدول العربية والأفريقية ولعل من أشهرهم البرفيسور الكيني أوتينو لومومبا أستاذ القانون ورئيس مؤسسة مكافحة الفساد.
ويرى لومومبا أن المحطة الأهم في الصراع بين القوى الاستعمارية على ثروات أفريقيا في القرن التاسع عشر الذي كان من مخرجاته، مؤتمر برلين في فبراير 1885، الذي شهد تقسيم القارة.
وهكذا قسّم من لا يملك البلدان الإفريقية على المحتلين وحضر مؤتمر النهب 14 دولة، وبناء على ذلك، فقد سارعت الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية، باستباحة باقي مناطق القارة الإفريقية والتوغل في أعماقها الداخلية، وانتهت هذه المرحلة باحتلال إيطاليا الفاشية لليبيا عام 1911، واحتلال فرنسا للمغرب الأقصى، عام 1912، وهكذا صارت سبع دول أوروبية وهي: بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، والبرتغال، وإسبانيا، وبلجيكا (مساحتها مجتمعة 734000 ميلا مربعا)، تستبيح 93% من أفريقيا (مساحتها 11300000 ميلا مربعا)، أي ما يعادل 15 ضعفاً لمساحة تلك الدول الأوروبية مجتمعة، ولم يتبقَ في كل أفريقيا دولة مستقلة، باستثناء أثيوبيا.
وبعد أن حصلت الدول الافريقية والعربية على استقلالها، واصلت أدوات النظام العالمي الجديد كصندوق النقد والبنك الدولي دورها في المزيد من افقار الشعوب، وتكبيلها في دوامة الديون.
وهكذا ستتواصل الدائرة المفرغة، التي لن تؤدي سوى الى تدفق أعداد هائلة من البشر.
فهؤلاء الذين يعرضون أنفسهم للموت غرقا يهربون إلى أوروبا من الأنظمة الاستبدادية التي دعمتها أوروبا ورعتها في إفريقيا.
وبدلا من سعي أوروبا للبحث عن الأسباب التي تجعل هؤلاء يغامرون بالموت غرقا بحثا عن حياة جديدة من خلال التوقف عن دعم الاستبداد والفساد في الدول الأفريقية، إذ بها تتستر على قمع الحكام الموالين لها ، ثم تطلب منهم أن يعملوا معها من أجل منع للمهاجرين!.